طوفان الأقصى- مقاومة مشروعة، ذكاء في الإعداد، وهزيمة للعدو

في الفترة التي سبقت السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، كانت الأوضاع بين قطاع غزة والكيان الإسرائيلي شديدة التوتر، يفاقمها بشكل خاص الحصار الخانق المفروض على القطاع.
أما في المسجد الأقصى المبارك، فقد كانت الأوضاع أكثر تأزماً، وذلك جراء التصاعد الملحوظ في الانتهاكات التي يرتكبها من يُطلق عليهم "حراس الهيكل" وأمثالهم، والمدعومين بقوة من قبل أتباع "المتدينين" من أنصار سموتريتش وبن غفير، الوزيرين المؤثرين في حكومة نتنياهو.
اقرأ أيضا
list of 3 items5 أعراض واضحة تنبئ بنهاية إسرائيل
الخريطة التي عرّفتنا على خطط نتنياهو
ماذا دار في خلد السنوار وهو يخطط لعملية "طوفان الأقصى"؟
وصلت التهديدات إلى حد التلويح ببناء كنيس يهودي في باحات المسجد، وتقسيم أوقات الصلاة فيه، والسماح بممارسة الطقوس التلمودية التي يرغبون بها. وتُعد هذه التهديدات انتهاكًا صارخًا للوضع القائم أو ما يعرف بالـ "ستاتيكو" الذي تم تثبيته دوليًا بموجب القانون الدولي منذ عام 1854، والذي تم احترامه طوال فترة الاستعمار البريطاني وحتى عام 2000، عندما بدأت هذه الانتهاكات التي ما زالت مستمرة حتى اليوم.
بالإضافة إلى ذلك، كانت الضفة الغربية على أعتاب اجتياح شامل من قبل الجيش الإسرائيلي، يستهدف مخيم جنين ونابلس وطولكرم ومخيم نور شمس، وصولاً إلى منطقة عقبة جبر. الأمر الذي جعل التحرك العاجل لمنع وقوع المجازر المتوقعة ضرورة ملحة بالنسبة لجميع أبناء الشعب الفلسطيني، وخاصة من قبل المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة.
باختصار، كانت المواجهة مع الاحتلال الإسرائيلي قبل انطلاق عملية طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، أمرًا متوقعًا من جانب جيش الاحتلال. فقد كان الجيش قد شرع بالفعل في تصفية المقاومة الفلسطينية في الضفة الغربية، وفرض تقسيم أوقات الصلاة في المسجد الأقصى بالقوة الغاشمة، متحديًا بذلك الجميع.
من هذا المنطلق، جاءت عملية طوفان الأقصى في توقيت بالغ الأهمية، كلحظة فاصلة بعد فترة طويلة من الإعداد والتحضير المتقن، وذلك كجزء لا يتجزأ من الإستراتيجية الشاملة والتكتيك الذي تتبعه المقاومة الفلسطينية لمواجهة الاحتلال.
فالمقاومة هي حق مشروع، تكفله القوانين الدولية، وتعززه الشرعية التي يمنحها حق الشعوب في ممارسة جميع أشكال النضال، وعلى رأسها المقاومة المسلحة، وذلك عندما تتعرض للغزو والاحتلال. فكيف إذا كان هذا الاحتلال استعماريًا استيطانيًا، يسعى لاقتلاع الشعب من أرضه وإحلال شعب آخر مكانه، فضلاً عن كونه احتلالاً عنصريًا يعتبر الشعب الفلسطيني مجرد جنس من الحيوانات، كما صرح بذلك بعض المسؤولين الإسرائيليين عقب عملية طوفان الأقصى.
لذا، فإن المبدأ الأساسي في تقييم عملية طوفان الأقصى، هو اعتبارها عملية مقاومة مشروعة، تتوافق مع القانون الدولي وأعراف الشعوب، إضافة إلى الدين والوطنية والعروبة والإسلام، والإنسانية جمعاء. وبالتالي، لا يحق لأحد أن يشكك في شرعيتها أو توقيتها أو عدالتها.
ثانيًا: عند التدقيق في التفاصيل الدقيقة التي ميزت عملية طوفان الأقصى، من حيث الإعداد والتحضير المحكمين، وتأمين عنصر المفاجأة بشكل كامل، بما يستلزمه ذلك من تجاوز للإجراءات الأمنية الهائلة، وفرض حالة من الغفلة على العدو، إلى درجة أن الكثيرين لم يصدقوا أن مثل هذه العملية يمكن أن تحدث، حتى بعد وصول مؤشرات كان من المفترض أن تدق ناقوس الخطر لديه، فإن إخماد يقظته الأمنية، وتعطيل قدرته على تقدير الموقف، وإيقاعه في براثن الغفلة.. كل هذه التفاصيل تؤكد أن عملية طوفان الأقصى تستحق أن تُقيَّم بأعلى معايير الذكاء والمعرفة والدهاء والبراعة في القيادة، وفي التخطيط والإعداد.
وهذا ما يستدعي من الشعب الفلسطيني على وجه الخصوص، أعلى درجات التقدير والثقة بالقيادة والكفاءات والمقاومين، وبالشعب الذي احتضنهم ودعمهم، كما أثبت في صموده وإيمانه وتضحياته الجسام، وهو يواجه جريمة الإبادة الجماعية الأكثر بشاعة في العصر الحديث.
ثالثًا: هذا البُعد الذي تجلى فيما سبق، تأكد بصورة لا تقل أهمية عن عملية طوفان الأقصى نفسها، بل قد تفوقها أهمية، ويستحق أن يكون امتدادًا لها. وذلك عندما تمكنت المقاومة وقيادتها وشعبها من تحقيق الانتصار في حرب برية أذهلت جيش العدو، وداعميه الدوليين، على مدار عام كامل، حيث عجزوا عن اقتحام أنفاق غزة، أو النيل من المقاومين داخلها ومن حولها.
فقد أثبتت قيادة عملية طوفان الأقصى، أنها كانت على أهبة الاستعداد لمواجهة أي عدوان متوقع يهدف إلى القضاء على المقاومة، وإخضاع غزة، وأنها أعدت العدة على أكمل وجه.
لقد دارت معارك ومواجهات شرسة بين المقاومة والجيش الإسرائيلي بكل ما أوتي من قوة، وبدعم عسكري وسياسي ولوجستي عالمي من أميركا والدول الغربية. وكانت النتيجة العسكرية طوال الأشهر الاثني عشر الماضية، هزيمة نكراء للجيش الذي يتباهى بأنه رابع أقوى جيش في العالم، والذي لطالما اعتبر نفسه قوة لا تقهر، وأقوى جيش في المنطقة بأسرها.
وكل ما سبق ذكره من تفاصيل حول الحرب البرية، يبرهن على أن المقاومة وقادتها كانوا قد أعدوا خطة دفاعية محكمة، بما في ذلك تأمين جميع الاحتياجات الضرورية للمحاصرين في الأنفاق من ماء وطعام وسلاح وصبر وإيمان وبراعة قتالية لا مثيل لها. وهذا يدل على بعد نظر ثاقب، واستعداد مسبق لمعركة طاحنة استمرت عامًا كاملاً، وما زالت فصولها مستمرة لأشهر قادمة.
رابعًا: عندما وجد الجيش الإسرائيلي وقادة الكيان الصهيوني أنفسهم عاجزين عن تحقيق أي نصر عسكري في الحرب البرية، لجأوا إلى خوض حرب أخرى في الوقت نفسه، حربًا تستهدف إبادة المدنيين الأبرياء، وتدمير قطاع غزة بأكمله، ليس انتقامًا من الهزيمة التي لحقت بهم في عملية طوفان الأقصى فحسب، وإنما لإنقاذ ما تبقى من ماء الوجه بعد أن انكشف عجزهم العسكري في الميدان. وقد أصبح هدف استمرار الحرب هدفًا بحد ذاته؛ لأنه يحول دون إعلان المقاومة انتصارها بمجرد الإعلان عن وقف إطلاق النار.
الأمر الذي أدى في الوقت نفسه إلى دفع الدول الغربية بأكملها، وعلى رأسها أميركا، إلى تحويل هذه الحرب إلى حرب عالمية ضد قطاع غزة، بكل ما تحمله من أبعاد حضارية ودينية ومعنوية. وهو ما أكده نتنياهو في خطابه أمام الكونغرس، حين اعتبر أن حربه هي دفاع عن الحضارة الغربية ضد "البربرية". وتحول هذا الخطاب إلى فضيحة أميركية، حين قوبل بتصفيق حاد من أعضاء الكونغرس. وقد كشف هذا الموقف عن جميع أشكال العنصرية المتأصلة في الحضارة الغربية، وعن تفوق الرجل الأبيض على شعوب العالم. وذلك حين يعتبر مرتكبو جرائم الإبادة الجماعية وقتل الأطفال والمدنيين الأبرياء في غزة، ممثلين للحضارة الغربية (العرق الأبيض) ضد "البرابرة" (شعوب العالم).
خامسًا: على الرغم من ذلك، فإن الانتقال إلى حرب الإبادة (القتل الجماعي للمدنيين الذين لا يستطيعون منع الإبادة أو الفرار بأنفسهم) أمر غير مبرر، ولا يحق لأي فلسطيني أو عربي أو مسلم أو إنسان في هذا العالم أن يعتبر أن عملية طوفان الأقصى هي التي تسببت في حرب الإبادة. لأن حرب الإبادة أولاً، تخرج عن نطاق أي توقع في أي صراع، وثانيًا، لا يوجد أي مبرر لوقوعها من أي نوع. بل هي جريمة قائمة بذاتها، ولذاتها، كما يعتبرها القانون الدولي والأعراف الإنسانية، ولا يُحاسَب عليها إلا مرتكبوها ومن يؤيدهم أو يغطيهم.
إن هذا الموقف الرافض لحرب الإبادة هو الموقف الصحيح والأخلاقي، وبدونه يتم إضفاء الشرعية على الإبادة (القتل الجماعي) لتصبح قانونًا عالميًا في الصراعات والحروب. أي العودة بالإنسانية ليس إلى الغابة وقانونها، بل إلى غابة من الوحوش لم يشهدها تاريخ البشرية من قبل.
وخلاصة القول، أن عملية طوفان الأقصى، وانتصار المقاومة بقيادة يحيى السنوار، وصمود الشعب وإيمانه وصبره وتضحياته في غزة، قد شكلت مجتمعة ملحمة مقاومة تاريخية في الطريق نحو تحرير فلسطين من النهر إلى البحر.
كما شكلت هذه الملحمة محور مقاومة عربي وإيراني وإسلامي يشارك في القتال والتضحية. وقد أيقظت ضميرًا إنسانيًا عالميًا يسعى لبناء عالم جديد يتسم بالعدالة والمساواة بين جميع الشعوب. وكشفت النقاب عن زيف الوجود الإسرائيلي، وفضحت جريمة العنصرية، وفضحت سياسات الدول الغربية التي تتستر على جرائم الإبادة الجماعية التي ترتكب على مدار عام كامل ضد المدنيين والأطفال الأبرياء في غزة.